أفكار وآراء

الأولويات .. ثوابت بخروج المغلوب

11 فبراير 2018
11 فبراير 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يستحيل؛ وفق فهم العنوان أعلاه؛ أن لا تكون هناك أولوية ما، عند كل منا، نعم؛ قد يكون المفهوم، برصانته العلمية، غير حاضر عند الحديث عن أولوياتنا، وربما هناك القليل؛ من يعي هذا المفهوم، ولكن الأغلبية العظمى من الناس، لا تستحضر مفهوم «الأولوية» بتجريديته العلمية، ولكنهم يمارسونه في حياتهم اليومية بكل تجرد، ويحرصون مع أنفسهم أن تكون لهم أولويات؛ فهذا أولى من هذا؛  ولهذه الأولويات استحقاقات يعونها تماما، كما يعون ما معنى أن تكون لديهم أولويات يحرصون على تحقيقها، ويعطونها فرصة الإنجاز أولا قبل غيرها، وهناك الكثيرون أيضا لا يقحمون أنفسهم في إنجاز ما هو مستجد، قبل الانتهاء من ما هم فيه عاملون، مهما كانت درجة الإلحاح قوية، ودرجة الضغط من قوى فاعلة أقوى، وكما يقال: «ثابت الخطوة يمشي ملكا» وثبات الخطوة هذا يعود الى الوعي الحقيقي بأهمية أن تكون هناك أولوية لشيء ما، وهذه صورة معايشة عند الجميع بلا استثناء.

يقينا؛ هناك من يتساءل مع نفسه، عن أولوياته، سواء ذلك على مستوى اليوم الواحد، أو الشهر، أو السنة، فهناك أولويات حاضرة، وهناك أولويات تأخذ بعدا زمنيا للبدء فيها، وهذا الفهم يدخلنا في مسألة تحقيق الأهداف وإنجازها، ولعل التفريق بين الأولويات والأهداف هو أن الأهداف ثوابت يجب أن تتحقق من خلال ترتيبها وفق أولويات متدرجة، وإن تعرضت لتزاحم الأولويات؛ فهنا علينا أن نفاضل بينها من خلال قاعدة «خروج المغلوب» حتى نستطيع أن ننجز أكبر قدر من هذه الأهداف في أقل وقت زمني متاح لنا، ومعنى هذا فالعلاقة شديدة التماس بين الأولويات والأهداف، فالأولى «الأولويات» موكول عليها تحقيق الثانية «الأهداف» ولا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل بينها في الظروف ذاتها المسندة أحدهما على الأخرى، ومن يستطيع أن يدير هذه المعادلة الموقوف نجاحها على الزمن والـ «أولوية» يكون له فضل السبق في تحقيق نجاح من خلال خبراتنا وتجاربنا في الحياة، ولا تأتي المسألة هكذا عفوية، وبذلك نكسب رهان التحقق والوقوف على ثوابت صلبة لمشروعات حياتنا اليومية، أو الشهرية، أو السنوية، والى آخر العمر، وهؤلاء، حسب مقاييس البشر، يكونون قليلين، فالنجاح مرتع صعب، ليس يسيرا المحافظة عليه، وإن سهل الوصول إليه في لحظة فارقة تهيأت لها ظروف مناسبة، في زمن مناسب، حيث تحضر الـ «أولويات» كمشرع مهم للإنجاز.

لذلك عندما ننظر في أولوياتنا كأفراد في المجتمع؛ ونتساءل مع أنفسنا: ما هي أولوياتنا؟ نجدها تنحصر في تحقيق الذات الفردية، مع اختلاف الأولويات عند كل فرد على حدة، لاختلاف الأهداف، فسقف طموحاتهم لتحقيق أهدافهم تظل كبيرة وواسعة، وعميقة، ولكل فئة ظروفها الخاصة، وهذه الصورة تعتمد على محددات كثيرة لا حصر لها، حيث تحددها الأماكن، ومستوى الحالة المادية، والظروف الأسرية، والقدرة على توظيف ما هو متاح، وحتى الظروف المجتمعية؛ على مستوى المجتمع، والظروف البيئية، والظروف السياسية، والحالة الثقافية، والمستوى الاقتصادي، فهذه كلها تتداخل في ماهية الأهداف، وبالتالي في أولويات تحقيقها، والمسألة شديدة التعقيد، وليست بالصورة التي قد يتخيلها البعض، ولذلك؛ وقياسا على هذه الصورة؛ هناك الكثيرون ممن تنازلوا عن تحقيق أهدافهم التي رسموها لمسيرة حيواتهم، وهناك الكثيرون ممن أعادوا ترتيب أولوياتهم؛ هذه مسألة مهمة؛ وهناك الكثيرون ممن استجدت عندهم أهداف؛ كانت ثانوية؛ فأصبحت رئيسية، وأولويات أصبحت ثانوية، وهذه كلها مرهونة بالظروف التي يمر بها الإنسان، بالإضافة الى مجموعة المراجعات المستمرة التي نقوم بها في حياتنا اليومية، فمجموعة الأفكار المطروحة في عمر الشباب، غيرها المطروحة في عمر الكهولة والمشيب: «عمر الشبيبة يبدي عذر صاحبه: ما بال شيبة يستهويه شيطان» كما قال الشاعر، فحتى هذه الفترات العمرية لها دور كبير، سواء في نوعية الأهداف، وفي ترتيب أولوياتها من حيث ضرورة إنجازها، أو هي ثانوية لا تمثل أهمية ما.

وإذا كانت ثيمة «الأولوية» حاضرة بقوة في حياة كل فرد، فيقينا حضورها على مستوى المؤسسات أكثر، وتتسع الرؤية أكبر، بحكم مجموعة البرامج التي تنفذها المؤسسات؛ خاصة؛ أن المؤسسات تضطلع بمهام كبيرة ومصيرية في بعضها الآخر؛ وذلك انعكاس للدور الذي تقوم به، ولمجموع المسؤوليات الموكولة إليها، فهي لا تتبنى؛ فقط، برامج قصيرة المدى- على سبيل المثال- كحال الفرد البسيط، فهي؛ بحكم المهام والمسؤوليات؛ تتبنى استراتيجيات، وهذه الاستراتيجيات تضم غالبا، عددا كبيرا من الخطط والبرامج، وهذه كلها تستدعي أن تكون فيها أولويات ملحة، وأخرى ثانوية، وقد ترتقي بعض البرامج الثانوية لتكون أولويات أكثر إلحاحا، وذلك بناء على كثير من المستجدات التي تحدث، والتي قد تكون غير متوقعة أصلا لأن تحدث، وخاصة في الأحداث التي لا يكون للإنسان فيها أية يد، قادرة على إيجاد توازن ما، وخاصة في حالات الظروف الصادمة، كالأحداث الطبيعية «الكارثية» أو مستجدات الأحداث السياسية التي يصاحبها احتلال شعوب، وتدمير بنى أساسية، واستعمار دول، هنا؛ كثير ما تحدث مجموعة من الارتباكات والتصدع في بنيان القيم التنموية، حيث ترتبك هذه الـ «أولويات» لعدم وجود حالة إنسانية مستقرة، حيث يكون الميدان هو من يفرض أجندته على واقع الناس.

ينظر الى مجموعة الأخطاء التي تحدث في شأن التخطيط السليم؛ سواء على مستوى الفرد أو المؤسسة؛ بأن ذلك عائد الى عدم وجود أولويات لدى القائم على التخطيط، حيث انتفاء الأولويات، وهذا لا يكون؛ عادة؛ إلا عندما يزيد التخبط ، وانعدام الرؤية المستقبلية، وإلا كيف يكون الفرد، أو المؤسسة بدون أولويات تسعى الى تحقيقها، في ظل برامج وخطط مؤدية؛ بالضرورة؛ الى الارتقاء في سلم التنمية، وحالة الفرد، كحالة المؤسسة، حيث لا بد من ابتكار، أولوية ما، ليتم من خلالها السعي لتحقيق هدف ما، في تسارع الحياة المخيف، لأن الزمن لا يتيح لنا فرصة المراهنة على بقائه دون تحقيق منجز ما، وبالتالي يصبح من الضرورة بمكان حضور دائم لمفهوم الـ «أولويات» حتى لا يكون هناك فراغ ما، من شأنه أن يحدث فترة إرباك لتحقيق ما نسعى الى تحقيقه في المساحة الزمنية المتاحة لنا كبشر، ولذلك نستغرب أحيانا؛ عندما نسمع من شخص ما، أنه يشعر بملل ما، وبرتابة حياة مملة، لا تجديد فيها، ولا خروج عن مألوف، وهذه سفسطائية زائدة؛ كما يقال؛ لا يجب أن يكون لها مكان لدى أية نفس تنبض بالحياة ولديها رؤى، واستشرافات محملة على كف الأمل لبناء غد أكثر إشراقا.

وتأتي الخبرة والتجربة هنا لتكون محورا مهما في شأن ترتيب وتفعيل الـ «أولويات» فما يحدث أحيانا أن تهدر القوى، وتضيع الأوقات، في أشياء ثانوية، ما كان ينبغي أن يكون لها تلك الأهمية التي أوليت بها، ولكن الجهل بحقائق الأمور؛ أحيانا؛ يعمي البصيرة، خاصة عندما يفتقد التخطيط السليم، كما تمت الإشارة اليه سابقا، ومن هنا تأتي أهمية إجراء الدراسات الأولية لمختلف المشروعات: الفردية والمؤسسية، على حد سواء، فنتائجها هي التي تبصر بالمسارات الصحيحة للوصول الى نتائج سليمة وواقعية، وتعفى في هذه الحالة حالة «الارتجال» التي تمارس على عجل؛ وتكون عواقبها وخيمة الى حد بعيد؛ فالمسألة ليست تحصيل حاصل، وإنما تؤسس وفق المنهج العلمي الرصين الذي يعطي نتائج بحقائق مجردة من كل شائبة، هذا إذا كانت هناك نوايا صادقة تريد أن تعمل بالفعل، ولا تريد أن تسجل حضورا رمزيا فقط، ربما هذه الحالة «التجريدية» مضمونا تحققها على مستوى الفرد، أكثر من مستوى المؤسسة، لأن الفرد لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخون نفسه، أما المؤسسة، الموكول إنجازها الى مجموعة غير قليلة من العاملين، فيمكن أن يحدث فيها تلاعب ما، يؤثر بصورة مباشرة على أدائها الحقيقي، فلا أولويات، ولا أهداف، ولا خطط، ولا برامج، وهذا مما يؤسف له؛ حقا؛ عندما تصل الحالة المؤسسية عند هذا المستوى من الترهل.

أختم هنا بالقول: عندما تتنازعك أولويتان فطبق عليها المفهوم الرياضي «خروج المغلوب» ولا تتردد أبدا، وكما يقول الشاعر: «إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن سداد الرأي ترك التردد» فأولوياتنا كثيرة، ونريد أن ننجز كل شيء في وقت واحد لحالة الخوف الـ «فطرية» التي تلازمنا، ولكن علينا بالفعل أن نركز أكثر على أولوياتنا المستحقة، ولا ننجر وراء أولويات كثيرة - كما نعتقد - دون تحقيق ما يجب تحقيقه، لأن في ذلك خسارة، ليس فقط للعمر والجهد، ولكن خسارة لمكتسب الوعي الذي؛ نعتقد؛ أننا وصلنا إليه.